سورة مريم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)}
وتقرير هذا الجواب أن يقال: إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم، فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيباً لله تعالى لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غماً في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحداً من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى وهي أن من وجد الدنيا كان حبيباً لله تعالى، أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غماً، وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة، بقي البحث عن تفسير الألفاظ فنقول: أهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم (وهم أحسن) في محل النصب صفة (لكم)، ألا ترى أنك لو تركت (هم) لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية، والأثاث متاع البيت، أما رئياً فقرئ على خمسة أوجه لأنها إما أن تقرأ بالراء التي ليس فوقها نقطة، أو بالزاي التي فوقها نقطة فأما الأول، فإما أن يجمع بين الهمزة والياء أو يكتفي بالياء.
أما إذا جمع بين الهمزة والياء ففيه وجهان:
أحدهما: بهمزة ساكنة بعدها ياء وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت رئياً.
والثاني: ريئاً على القلب كقولهم راء في رأى، أما إن اكتفينا بالياء فتارة بالياء المشددة على قلب الهمزة ياء، والإدغام، أو من الري الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: ريان من النعيم.
والثاني: بالياء على حذف الهمزة رأساً ووجهه أن يخفف المقلوب وهو ريئاً بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها، وأما بالزاي المنقطة من فوق زياً فاشتقاقه من الزي وهو الجمع، لأن الزي محاسن مجموعة، والمعنى أحسن من هؤلاء، والله أعلم.


{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)}
اعلم أن هذا الجواب الثاني عن تلك الشبهة وتقريره لنفرض أن هذا الضال المتنعم في الدنيا قد مد الله في أجله وأمهله مدة مديدة حتى ينضم إلى النعمة العظيمة المدة الطويلة، فلابد وأن ينتهي إلى عذاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة بعد ذلك سيعلمون أن نعم الدنيا ما تنقذهم من ذلك العذاب فقوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} مذكور في مقابلة قولهم: {خَيْرٌ مَّقَاماً} [مريم: 73] {وَأَضْعَفُ جُنداً} في مقابلة قولهم: {أَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73] فبين تعالى أنهم وإن ظنوا في الحال أن منزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله تعالى بالمقام والندى فسيعلمون من بعد أن الأمر بالضد من ذلك وأنهم شر مكاناً فإنه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب. {وَأَضْعَفُ جُنداً} فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أن اجتماعهم ينفع فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه. بقي البحث عن الألفاظ وهو من وجوه:
أحدها: مد له الرحمن أي أمهله وأملى له في العمر فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور الممتثل ليقطع معاذير الضال، ويقال له يوم القيامة: {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] وكقولهم: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178].
وثانيها: أن قوله: {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} يدل على أن المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة لأن قوله: {وَإِمَّا الساعة} المراد منه يوم القيامة ثم العذاب الذي يحصل قبل يوم القيامة يمكن أن يكون هو عذاب القبر ويمكن أن يكون هو العذاب الذي سيكون عند المعاينة لأنهم عند ذلك يعلمون ما يستحقون، ويمكن أيضاً أن يكون المراد تغير أحوالهم في الدنيا من العز إلى الذل، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى المرض، ومن الأمن إلى الخوف، ويمكن أن يكون المراد تسليط المؤمنين عليهم، ويمكن أيضاً أن يكون المراد ما نالهم يوم بدر، وكل هذه الوجوه مذكورة، واعلم أنه تعالى بين بعد ذلك أنه كما يعامل الكفار بما ذكره فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى، واعلم أنا نبين إمكان ذلك بحسب العقل، فنقول: إنه لا يبعد أن يكون بعض أنواع الاهتداء مشروطاً بالبعض فإن حاصل الاهتداء يرجع إلى العلم ولا امتناع في كون بعض العلم مشروطاً بالبعض، فمن اهتدى بالهداية التي هي الشرط صار بحيث لا يمتنع أن يعطي الهداية التي هي المشروط، فصح قوله: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} مثاله الإيمان هدى والإخلاص في الإيمان زيادة هدى ولا يمكن تحصيل الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص، هذا إذا أجرينا لفظ الهداية على ظاهره ومن الناس من حمل الزيادة في الهدى على الثواب أي ويزيد الله الذين اهتدوا ثواباً على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر هذه الزيادة بالعبادات المترتبة على الإيمان، قال صاحب الكشاف: يزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر وتقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مداً ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه بذلك المد ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه، ثم إنه تعالى بين أن ما عليه المهتدون هو الذي ينفع في العاقبة فقال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا} وذلك لأن ما عليه المهتدون ضرر قليل متناه يعقبه نفع عظيم غير متناه، والذي عليه الضالون نفع قليل متناه يعقبه ضرر عظيم غير متناه، وكل أحد يعلم بالضرورة أن الأول أولى، وبهذا الطريق تسقط الشبهة التي عولوا عليها واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات فقال المحققون إنها الإيمان والأعمال الصالحة سماها باقية لأن نفعها يدوم ولا يبطل ومنهم من قال المراد بها بعض العبادات ولعلهم ذكروا ما هو أعظم ثواباً فبعضهم ذكر الصلوات وبعضهم ذكر التسبيح وروي عن أبي الدرداء قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأخذ عوداً يابساً فأزال الورق عنه ثم قال: إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله يحط الخطايا حطاً كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة، وكان أبو الدرداء يقول: لأعلمن ذلك ولأكثرن منه حتى إذا رآني جاهل حسب أني مجنون.
والقول الأول أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها ولا ينقطع فبعض العبادات وإن كان أنقص ثواباً من البعض فهي مشتركة في الدوام فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى آثارها التي هي الثواب ثم إنه تعالى أخبر أنها: {خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} ولا يجوز أن يقال: هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره فالمراد إذن أنها خير مما ظنه الكفار بقولهم: {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73].


{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل أولاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين، وأجاب عنها أورد عنهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بئاياتنا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} قرأ حمزة والكسائي ولداً وهو جمع ولد كأسد في أسد أو بمعنى الولد كالعرب في العرب، وعن يحيى بن يعمر ولداً بالكسر، وعن الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة والمشهورة أنها في العاص بن وائل، قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين فاقتضيته فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد قلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم لا حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث فقال: فإني إذا مت بعثت؟ قلت: نعم. قال: إني بعثت وجئتني فسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك، وقيل: صاغ خباب له حلياً فاقتضاه فطلب الأجرة فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم، فإني أوتي مالاً وولداً حينئذ ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله: {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} قال صاحب الكشاف: أطلع الغيب من قولهم أطلع الجبل أي ارتقى إلى أعلاه ويقال مر مطلعاً لذلك الأمر أي غالباً له مالكاً له والاختيار في هذه الكلمة أن تقول: أو قد بلغ من عظم شأنه أنه ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار، والمعنى أن الذي ادعى أن يكون حاصلاً له لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الأمرين، إما علم الغيب وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إليه؟ وقيل: في العهد كلمة الشهادة عن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول؟ ثم إنه سبحانه بين من حاله ضد ما ادعاه، فقال: {كَلاَّ} وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطئ فيما يقوله ويتمناه فإن قيل لم قال: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} بسين التسويف وهو كما قاله كتب من غير تأخير قال تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] قلنا فيه وجهان:
أحدهما: سيظهر له ويعلم أنا كتبنا.
الثاني: أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك وإن كان في الحال في الانتقام ويكون غرضه من هذا الكلام محض التهديد فكذا هاهنا، أما قوله تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} أي نطول له من العذاب ما يستأهله ونزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ويقال مده وأمده بمعنى ويدل عليه قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام ويمد له بالضم، أما قوله ونرثه ما يقول أي يزول عنه ما وعده من مال وولد فلا يعود كما لا يعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك في الآخرة يبقى فرداً فلذلك قال: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} فلا يصح أن ينفرد في الآخرة بمال وولد: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94]، والله أعلم.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13